من انتفاضة الغضب إلى ثورة التغيير
للثورات في العالم أزمنتُها وقرائنُها وأحوالُها وقضاياها وآفاقُها ومصائرُها ومآلاتُها. وعليه، ميَّز الفكرُ السياسيّ المعاصر الهيجانَ من العصيان، والعصيانَ من الانتفاضة، والانتفاضةَ من الثورة.
للثورات في العالم أزمنتُها وقرائنُها وأحوالُها وقضاياها وآفاقُها ومصائرُها ومآلاتُها. وعليه، ميَّز الفكرُ السياسيّ المعاصر الهيجانَ من العصيان، والعصيانَ من الانتفاضة، والانتفاضةَ من الثورة.
يذكّرني هؤلاء اللبنانيّون بسيرة أهل الكهف الذين تناولهم أفلاطون حين دعاهم إلى الانعتاق من سلاسل الجهل، والخروج إلى منفسحات النور المعرفيّ وفضاءات المثُل الإنسانيّة العليا. مَن تعوَّد ظلمةَ الجهل والعبوديّة ظنَّ أنّ الوجود كلّه منحوتٌ على هذا النحو.
منذ العام 1990 يتعرض الاقتصاد اللبناني لعمليات نهبٍ منظّم أوصل الدولة إلى مئة مليار دولار دين تقريبًا وإلى تراجع القوة الشرائية للمجتمع.
أغارت الهراوات السوداء على الخيم شبه الخالية في توقيت ما قبل التظاهر، فحطّمت الأعمدة ومزّقت الأقمشة، لكن ظلال الفارين منها طاردت نفوس المغيرين عليها، وغرزت بصماتها في ضوضائهم. فلما عاد المتظاهرون، إلى الساحات تمددت ظلالهم إلى أوسع من الأصل، وشكلت متراساً لا يخترقه الرصاص، ولا يشرده الخوف. تلك أيام أصبحت فعلاً من أيام العرب، إذا غابت عن العيون دامت في الوعي والوجدان، تماماً كقول الشاعر: ألْجِسْمُ أقْوَى وَيَفْنَى والرسْمُ أوْهى وَيَبْقَى
أعجبُ كلَّ العجب من هؤلاء اللبنانيّين الذين ما زالوا ينتظرون من زعماء طوائفهم إصلاحَ الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتربويّة والبيئيّة. ويبدو لي أنّ الذهنيّة اللبنانيّة ما انفكّت أسيرة عبادة الزعماء، شأنها في ذلك شأن الذهنيّات البطريركيّة القديمة التي أثبتت الحداثةُ الفكريّة أنّها عادت لا تلائم مبدأ الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة. جميع القوميّات والأيديولوجيّات الإقصائيّة الاحترابيّة تستميت في اختراع صورةٍ بهيّة للزعيم القائد تستنهض بها عزائم الناس للإطباق على وعيهم، والانقضاض على ضميرهم، والإجهاز على حرّيّتهم.
الحملات الإعلامية والسياسية البذيئة والمقززة التي تبادلتها أحزاب السلطة قبل الحراك الشعبي في السابع عشر من تشرين الأول الفائت، جعلت السياسيين اللبنانيين أضحوكة لدى الجمهور والعامة، ولو قيض لبحث حسابي أن يتتبع منتوج الرذائل والسباب الذي تقاذف به المسؤولون اللبنانيون، لكانت النتيجة كمًّا هائلًا وحجمًا مهولًا، وبما يفضي إلى القول بأن
كلّ إنسان يحمل في ذاته آثار التصوّرات الكبرى التي تعتنقها الجماعة التي ينشأ فيها، وفيها يترعرع وينتصب فردًا حرًّا مسؤولًا. وقد يخرج غيرُ واحد منّا على جماعته وتصوّراتها.
منذ بدأت التفكير بمعالجة هذا الموضوع وإتمام هذه الدراسة، لفت نظري ما قرأته على صفحة رفيق الصبا المثقّف الأستاذ سعد الدين فاعور على الفايسبوك، أعني ما تقوله سارة لي ويتسون Sarah Leah Whitson، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظّمة هيومن رايتس واتش Human Rights Watch، هذه المرأة المثقّفة المتعمّقة في العمل العام عن وعي كامل وعن استعداد للتضحية.
كان ليون تولستوي يعتقد أن النار المشتعلة لا تنظفئ أبدًا. وهي كانت بدأت بالاشتعال عندنا في غابات الجبال والوديان مطلع تشرين الأول ذاك، وارتفع سواد دخانها في الفضاء ليزيد سواد القلوب سوادًا والإحباط اكتئابًا. إلى درجة أن الكثيرين لجأوا إلى خبايا نفوسهم مستسلمين.
الشبّان والشابّات الثائرون يُصرّون على تغيير النظام اللبنانيّ تغييرًا جذريًّا. ويصرّ ثائرون آخرون على إلغاء الطائفيّة وإنشاء الدولة المدنيّة. أمّا الأحزاب اللبنانيّة، فبعضُ يسارها يصرّ على إلغاء الطائفيّة السياسيّة، وبعضُ يمينها يصرّ على العَلمانيّة الشاملة.